قبل 22 عاماً، تلقت المعمارية الإيرلندية رويشين هينيغان مكالمة غيّرت مسار حياتها.
فقد أُبلغت بأن شركتها الصغيرة المكوّنة من أربعة أشخاص فازت بتصميم أحد أكبر المتاحف في العالم.
ظنّت في البداية أن الأمر مزحة، فاتصلت بالجهة الرسمية لتتأكد من أن الخبر حقيقي.
قالت هينيغان، في مقابلة وقتها وكانت تدير مكتبها Heneghan Peng Architects مع زوجها شيه-فو بنغ:«لم أصدق في البداية..وضعت الهاتف وقلت: أعتقد أننا فزنا فعلاً».
شرارة البداية عام 1992: تعليق عابر أشعل الحلم
قبل نحو 33 عاماً، وتحديداً عام 1992، ولدت فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير من تعليق عابر أثناء حوار جمع وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني مع عدد من المثقفين.
كان المتحف المصري القديم في ميدان التحرير آنذاك يعاني ضيق المساحة، وأصبح أقرب إلى مخزن مكتظ بالآثار، غير قادر على استيعاب التماثيل الضخمة أو توفير تجربة عرض تليق بعظمة الحضارة المصرية القديمة.
طرح الوزير فاروق حسني الفكرة على الرئيس الراحل حسني مبارك، الذي أبدى حماسه للمشروع ومنحها الضوء الأخضر لتبدأ رحلة بناء واحد من أكبر المتاحف في العالم.
تعاون مصري - إيطالي لتأسيس الرؤية الأولى
في عام 1993، وجهت وزارة الثقافة المصرية دعوة إلى الجانب الإيطالي للمشاركة في المشروع، وشُكّلت لجنة مشتركة مصرية – إيطالية وضعت الخطوط العريضة للفكرة.
أتمّ الخبراء الإيطاليون بعد سنوات قليلة، إعداد دراسة جدوى شاملة للمتحف في ثمانية مجلدات ضخمة، أرست الأساس العلمي والتنظيمي للمشروع.
مسابقة عالمية لتصميم المتحف
أطلقت الحكومة المصرية في عام 2002 مسابقة تصميم دولية لإنشاء المتحف المصري الكبير، وتم تخطيطه ليكون بمنزلة مجمع ضخم يضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية على بُعد خطوات من أهرامات الجيزة.
وقد تم اختيار مكتب إيرلندي صغير من بين 1,556 مشاركة من مختلف أنحاء العالم لتصميم المتحف.
2006: أكبر مركز لترميم الآثار في الشرق الأوسط
أنشأت مصر في 2006 أكبر مركز لترميم الآثار في الشرق الأوسط، خصصته لصون وتجهيز القطع الأثرية التي ستُعرض داخل المتحف.
وافتُتح هذا المركز رسمياً عام 2010، ليصبح القلب العلمي النابض للمشروع، ورافداً أساسياً في حفظ كنوز مصر القديمة.
المرحلة الثالثة 2012: بناء المتحف الرئيسي
أطلقت مصر في عام 2012 المرحلة الثالثة من المشروع، والتي تضمنت بناء المبنى الرئيسي الذي يضم:
قاعات العرض الكبرى
المسارح والقاعات الثقافية
معامل التعليم والتدريب
مختبرات الترميم المتطورة
بنية تحتية حديثة لتقنيات المعلومات والاتصالات
هذه المرحلة مثّلت النقلة النوعية التي جعلت المشروع أقرب إلى الواقع بعد سنوات من التخطيط.
2016: تدخل القوات المسلحة لتسريع الإنجاز
في عام 2016، قررت الحكومة المصرية إنشاء هيئة عامة مستقلة للمتحف المصري الكبير، وأسندت مهمة الإشراف على التنفيذ إلى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
هذا القرار أسهم في تسريع وتيرة الإنجاز خلال السنوات التالية، ليقترب المشروع من خط النهاية بعد عقود من العمل المتواصل.
رحلة 20 عاماً وكلفة تتجاوز المليار دولار
استغرق تحقيق الحلم أكثر من عشرين عاماً، وقفزت الكلفة إلى ما يزيد على مليار دولار.
لكن أخيراً، وبعد تأجيلات وتعثرات لا تُحصى، افتتحت مصر تحفتها المعمارية رسمياً، في حدث اعتبرته الدولة ذا أهمية وطنية لدرجة أنها أعلنت عطلة رسمية بمناسبة الافتتاح.
تحديات سياسية وزمنية كادت توقف المشروع
منذ الإعلان الأول عن المشروع عام 1992، صمدت خططه أمام ثورة يناير 2011 وثورة 30 يونيو عام 2013، وحتى أمام جائحة كوفيد-19 التي أرجأت موعد الافتتاح مراراً.
ورغم أن مؤسسات دولية أدرجت المشروع عام 2017 ضمن قائمة «أكثر المباني المنتظرة في العالم»، إلا أن استكماله لم يتم إلا اليوم، بعد رحلة طويلة من الصبر.
من التحرير إلى الجيزة..رحلة الآثار القديمة
نُقلت آلاف القطع من المتحف المصري القديم بوسط العاصمة، الذي ظلّ مزدحماً لعقود، إلى المتحف الجديد الواسع عبر موكب مهيب.
كما أُضيفت قطع حديثة الاكتشاف تم استخراجها من مقابر سقارة، الواقعة على بُعد 14 ميلاً جنوب الجيزة.
تصميم يمزج بين الضوء الطبيعي والعظمة الحجرية
تبدأ تجربة الزائر في الردهة الكبرى، حيث يستقبله تمثال ضخم لرمسيس الثاني بارتفاع 11 متراً والذي أشرف على نقله من مكانه بوسط القاهرة حتى مقره الجديد بالمتحف المصري الكبير فريق من كلية هندسة بجامعة عين شمس.
وتتزين الواجهة بأشكال هندسية حادة مستوحاة من الأهرامات، من الخرسانة والزجاج والحجر الجيري المصري المحلي.
ويأتي ذلك لإدخال الضوء الطبيعي للمكان لأن التماثيل الحجرية تتحمل أشعة الشمس أكثر من اللوحات العضوية، خاصة أن الإضاءة الطبيعية تخلق جواً أكثر دفئاً وواقعية.
سلالم تقود نحو التاريخ..وإطلالة على الأهرامات
يُعد السلم الرئيسي المكوّن من ستة طوابق قلب المتحف النابض، حيث يصعد الزائر وسط تماثيل ضخمة مرتبة زمنياً بالعكس حتى يصل إلى القمة، حيث تُطلّ النوافذ مباشرة على أهرامات الجيزة على بعد كيلومتر ونصف فقط، مشهد يوصف بأنه التحفة الفنية الأعظم في المكان.
التحدي الأكبر: تصميم إلى جوار إحدى عجائب الدنيا السبع
كان بناء متحف بجوار الهرم الأكبر مهمة شاقة لأي مهندس.
لذلك اختار الفريق المعماري أن يُظهر احتراماً بصرياً لعظمة الأهرامات، فجعل انحدار سطح المتحف يشير نحو قمة الهرم من دون تجاوزها، كي لا يطغى المبنى على المشهد التاريخي.
ومن الأعلى، تبدو كتلة المتحف كعدسة تلسكوبية واسعة توجه عيونها نحو الأفق.
أما المختبرات وغرف الترميم ال17 فتم وضعها في الخلف بعيداً عن صالات العرض.
وبذلك، يختتم المتحف المصري الكبير رحلته الطويلة من الحلم إلى الواقع، ليصبح أيقونة جديدة تربط بين عظمة الماضي وروح الحاضر، تحت أنظار الأهرامات الخالدة.

















0 تعليق