نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
صنع في السعودية..., اليوم الأربعاء 31 ديسمبر 2025 01:04 صباحاً
كنا وأصبحنا، والحمد لله على ما وصلنا إليه. بالأمس اعتمدنا على الخارج لتأمين غذائنا ومنتجاتنا، واليوم ننتج فائضا من السلع الأساسية ونصدرها بثقة. ازداد عدد المصانع، وتوسعت الشركات الوطنية، وخاض المنتج المحلي رحلة كفاح طويلة حتى كسب ثقة المستهلك، فصار الشعور بالاعتزاز عند رؤية شعار «صنع في السعودية» على منتج صنع محليا، لحظة طبيعية للفخر والاطمئنان.
مع هذا التحول، تنوعت الخيارات وتعددت العلامات التجارية، ونمت الصناعة لتشمل قطاعات تقليدية وحديثة، وهو ما أسهم في رفع إنتاج السلع الأساسية وتحقيق فائض يصدر إلى الخارج. وبرغم استمرار استيراد سلع استراتيجية مثل القمح والأرز، شارك التصنيع المحلي في تعزيز الأمن الغذائي وترسيخ ولاء المستهلك، حتى غدا المنتج الوطني خيارا أولا ودليلا على قدرة الإنتاج والمنافسة. واليوم يتجاوز السؤال ما ننتج إلى معنى ما ننتجه؛ ففي عالم متقلب، تتحول الصناعة المحلية إلى فعل سيادي يعزز الاستقلال الاقتصادي. فماذا يعني أن تصنع البلدان احتياجاتها بيديها؟ وأي صورة للمستقبل نختار حين يتحول الإنتاج إلى هوية للأوطان؟
أطلق برنامج «صنع في السعودية» في مارس 2021 ليصبح وعدا بالجودة وفخرا بالهوية للمنتجات المحلية. انضم إليه آلاف الشركات ونحو 19 ألف منتج تصدر إلى أكثر من 180 دولة. واكب ذلك دعم حكومي للابتكار والتوسع الصناعي وفق أهداف رؤية 2030. غير أن هذا التحول حمل معه كلفة حقيقية، في التمويل، والتأهيل، والالتزام البيئي، وتأقلم السوق، وهي كلفة ضرورية لأي اقتصاد يختار أن يصنع مستقبله بيديه.
وتجسدت معاني الصناعة الوطنية في عدة نماذج لشركات سعودية حققت نجاحات باهرة، وأسهمت في تعزيز صورة المملكة في السوق المحلي والإقليمي. فهناك منتجات نعيش معها كل يوم دون أن نلتفت طويلا إلى الحكاية الصناعية التي تقف خلفها، ولعل أبرز هذه النماذج «البيك»، الذي أصبح جزءا من الذاكرة الغذائية السعودية. بدأ مطعما متواضعا في جدة عام 1974، ثم شق طريقه بثبات حتى غدا علامة وطنية ناجحة تضم أكثر من 152 فرعا داخل المملكة وخارجها، مع حضور في دول خليجية وخطط لتوسعات عالمية، في تأكيد واضح على أن الجودة التي تقدمها شركة البيك للأنظمة الغذائية تقترن بهوية محلية صادقة، قادرة على بناء علامات تجارية وطنية تنافس دوليا.
هناك أيضا المجموعة الوطنية للاستزراع المائي «نقوا»، التي قد لا يعرفها كثيرون بالاسم، لكنها تقف بهدوء خلف منتجات بحرية تصل إلى موائد السعوديين، إذ أستخدم شخصيا منتجاتها المتميزة وتصلنا للمنزل عبر التطبيق المخصص للشركة. وقد انطلقت الشركة كمشروع بحثي في ثمانينيات القرن الماضي على ساحل البحر الأحمر جنوب جدة لدراسة إمكانات تربية الجمبري، قبل أن تتحول تدريجيا إلى واحدة من أكبر شركات الاستزراع المائي في العالم، بإنتاج يناهز 100 ألف طن سنويا وتصدير يتجاوز 30 دولة. تدير الشركة مزارع متكاملة للجمبري والأسماك وخيار البحر، تشمل التفريخ والتربية والمعالجة وفق أحدث المعايير العلمية، وقد نجحت في تصدير أول شحنة جمبري سعودي إلى أوروبا عام 1992، في انطلاقة مبكرة أكدت قدرتها على الوصول إلى الأسواق العالمية.
ولا يكتمل الحديث عن فخر الصناعة السعودية دون التوقف عند شركة المراعي، التي تمثل نموذج الصناعة المتكاملة بامتياز؛ فمن مزرعة صغيرة عام 1977، تحولت إلى أكبر شركة ألبان متكاملة في العالم بإنتاج يقارب 1.5 مليار لتر حليب سنويا. وتنوعت منتجاتها بين الألبان والعصائر والأجبان والمخبوزات والدواجن، حتى غدت علامة موثوقة في كل بيت سعودي وخليجي، مدعومة باستثمارات مستمرة في التقنيات الزراعية الحديثة وإدارة سلاسل الإمداد، وتطوير الكفاءات الوطنية التي يعمل من بينها آلاف السعوديين.
وإذا كانت قصص النجاح السابقة شاهدا على ما تحقق، فإن المرحلة المقبلة تتطلب شراكة أوسع ومسؤولية من الجميع. إنها دعوة مفتوحة لكل أفراد المجتمع ومؤسساته؛ ادعموا المنتج الوطني ولنكن شركاء حقيقيين في التنمية، في الغذاء والدواء والصناعة، والطاقة المتجددة، والتقنية، والزراعة الذكية، والنقل والخدمات اللوجستية، فهي منظومة متكاملة تمس حياتنا اليومية وتؤثر في مستقبلنا.
هذه الإنجازات ما زالت في سباق مع الزمن، تحيط بها تحديات الكفاءة والمهارات واستدامة الموارد، وضعف مواءمة المنتجات مع الطلب وتسارع التقنية، فبعض الصناعات قد تنجح بالدعم لكنها تفشل إن غابت المنافسة والمحاسبة. هي تحديات، بالنسبة لي، لا تقل أهمية عن الاحتفاء بالإنجاز.. لذا يتضح أن الدور الداعم لا يقتصر على جهة بعينها؛ فالمسؤولية مشتركة بين المواطن الذي يختار المنتج المحلي، والمستثمر الذي يطلق مشروعا تنمويا جديدا، والجهات المنظمة مثل برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية (NIDLP) المعني باعتماد الشركات والمنتجات، وإدارة الهوية، والترويج داخليا وخارجيا. وفي هذه المنظومة المتكاملة، يعود كل ريال ينفق على المنتج السعودي في صورة وظائف، وتقنية، وابتكار، واستقرار اقتصادي، ونمو مستدام للأجيال القادمة.
فلنكن جميعا جزءا واعيا من هذه الرحلة الطموحة. دورنا اليوم أساسي في كتابة الفصل القادم من قصة نجاح الصناعة السعودية، إذ إن الناتج الوطني حين ينجح في السوق، يكون قد نجح أولا في وعي الناس، والسلام على من ينفع وطنه ويفيد الناس.
















0 تعليق