يشهد العالم في السنوات الأخيرة تحولات عميقة تتسم بتزايد الاضطرابات السياسية والاقتصادية واتساع الفجوة بين المجتمعات ومؤسسات الحكم، في ظل شعور عام بفقدان الثقة في قدرة الأنظمة القائمة على تحقيق العدالة والاستقرار.
ومـن هـذا الـواقع، ينطــلق ساشا ديفيس في كتابه هذا ليدعو إلى تصور جديد للتغيير يقوم على المبادرة الشعبية وبناء أشكال بديلة من الحوكــمة المجتمـعية القــادرة عــلى استعادة التوازن بين الإنسان والسـلطة.
يقدّم الباحث والناشط الأمريكي ساشا ديفيس في هذا العمل المعنون «استبدال الدولة: كيف يتغيّر العالم حين تفشل الانتخابات والاحتجاجات»، عملاً فكرياً جريئاً يطرح سؤالاً محورياً حول مصير الديمقراطية عندما تفقد أدواتها في إحداث التغيير. يشكّل هذا الكتاب، الصادر عن جامعة مينيسوتا عام 2025، دعوة عملية إلى تجاوز الإحباط السياسي والبحث عن بدائل واقعية تعيد للناس القدرة على إدارة شؤونهم خارج قوالب السلطة المركزية التي أظهرت قصورها أمام أزمات البيئة والعدالة الاجتماعية وحقوق الشعوب الأصلية.
يبدأ ديفيس من مشهد عالمي مألوف تتكرر فيه التظاهرات والمسيرات والانتخابات والحملات الإصلاحية، لكن النتائج تبقى محدودة. فالمؤسسات السياسية تميل إلى الحفاظ على استقرارها الداخلي أكثر من استجابتها لمطالب الشعوب، الأمر الذي يدفع المؤلف إلى البحث عن حركات تسعى إلى التغيير من خلال الفعل المباشر لا عبر الوساطة الحزبية أو البيروقراطية. هذه الحركات، كما يصفها، لا تنتظر الإذن لتبدأ، بل تبني واقعها الخاص عبر إنشاء نماذج جديدة للحكم والإدارة داخل مجتمعاتها.
ولادة بدائل مجتمعية
يعرض الكتاب سلسلة من دراسات الحالة التي تُظهر كيف استطاعت بعض المبادرات المجتمعية أن تخلق بدائل فعلية في مواجهة السلطة المركزية. ففي هاواي، يرصد ديفيس مقاومة السكان الأصليين لمشاريع التنمية المهدّدة لأراضيهم، وكيف تحولت مواقع الاحتجاج إلى فضاءات إدارة جماعية. وفي صحراء نيفادا، يتابع تجربة ناشطين واجهوا التجارب النووية فحوّلوا المقاومة إلى حركة تضامن بيئي. أما في أوكيناوا، فيقدّم مثالاً على مجتمعٍ أعاد صياغة مفهوم السيادة من خلال مبادرات محلية أكدت حقه في تقرير مصيره.
يكتب ديفيس بلغة تجمع بين التحليل العلمي والحس النضالي، مقدّماً رؤية تُعيد تعريف السياسة بوصفها ممارسة حياتية تقوم على المشاركة لا المركزية. فالتغيير يبدأ حين تتولّى المجتمعات إدارة مواردها بعقلٍ جماعي قائم على أخلاقيات الرعاية والمسؤولية. هذه التجارب، كما يرى، تفتح الطريق أمام نموذج تشاركي جديد للحكم يقوم على الثقة والمعرفة المحلية، ويعيد للسياسة جوهرها الإنساني.
يرى المؤلف أن التحدي الأعمق يتمثل في تجاوز الشعور بالعجز الذي يولّده احتكار النخب السياسية والاقتصادية للسلطة. لذلك يدعو القارئ إلى التحرّك العملي والانخراط في مبادرات محلية تُعيد توزيع القوة وتوسّع دوائر المشاركة. فكل تجربة ناجحة في حماية البيئة أو تعزيز العدالة الاجتماعية تمثّل خطوة نحو إعادة تشكيل بنية الحكم من القاعدة إلى القمة.
حوكمة جديدة قائمة على المشاركة
يقول المؤلف: «المشكلة الأساسية اليوم ليست في استحالة حل أزماتنا الكبرى، بل في أننا نواصل الاعتماد على المؤسسات القائمة لحلها، وهي مؤسسات لا تملك الرغبة أو القدرة الكافية للقيام بذلك. كثيراً ما يُقال: إن على المجتمعات أن تكون «قادرة على التحمّل» في وجه الأزمات، لكن المرونة تعني ببساطة قدرة أي مؤسسة أو مجتمع على التكيّف أو العودة إلى ما كان عليه بعد الأزمة، أي استئناف العمل كما كان قبل الكارثة. غير أن هذه العودة إلى «الوضع الطبيعي» هي نفسها ما يكرّس جذور الأزمات. فالنظام الذي يُفترض أنه مستقر هو الذي خلق هشاشتنا أمام الكوارث أصلاً، وسيفعل ذلك مجدداً. ما نحتاج إليه ليس «التحمّل» بل التحوّل أي إعادة تشكيل مجتمعاتنا ومؤسساتنا لتصبح أكثر استدامة وعدالة وشمولاً».
ويضيف: «وبعبارة أوضح، يمكن للبشر أن يتعاملوا مع الأزمات البيئية والاجتماعية الكبرى، لكن ذلك يتطلب توجيه الجهود نحو تحويل هياكل صنع القرار نفسها. غير أن السؤال هو: كيف يمكن القيام بذلك؟ فربما يسهل علينا أن نعدد مظاهر الخلل في الأنظمة السياسية والاقتصادية المعاصرة، لكن الأصعب هو ابتكار طرق عملية لتغييرها فعلاً. والأصعب من ذلك هو تخيّل اتفاق واسع بين الناس في أنحاء العالم حول الوسائل الفعالة لبناء حركات تغيير عالمية تستجيب لاحتياجات المجتمعات المحلية، وتوازن بين العدالة البيئية والاجتماعية، وتعتمد على التضامن والتنسيق لتحقيق شكل جديد من الحوكمة القادرة على مواجهة الأزمات المتراكمة».
يعتمد المؤلف على خبرته كباحـث وناشط درس لسنوات كيفية حدوث التغيير الاجتماعي، وكيف يمكن جعله أكثر تأثيراً. تناولت أبحاثه السابقة العلاقات بين الإنسان والبيئة في مناطق مهددة بالدمار، إلى جانب تحليله للأنظمة السياسية والاقتصادية وتاريخ الاستعمار والمقاومة. وبعد دراسة تجارب متعددة للتغيير الجذري، يخلص إلى أن الأمل الأكبر يكمن في الحركات الاجتماعية التي يبادر فيها الناس إلى الفعل الجماعي وبناء البدائل بأنفسهم. فهذه الحركات، بمختلف أشكالها، من الدفاع عن البيئة إلى النضال من أجل العدالة السياسية، تُظهر أن التغيير الحقيقي ينشأ حين يتحرك الأفراد في إطار من التضامن والرؤية المشتركة لبناء عالم أكثر عدلاً واستدامة.
بنية الكتاب
يُفتتح الكتاب بمقدمة بعنوان «إحداث التغيير الاجتماعي الحقيقي من القاعدة إلى القمة»، يضع فيها ديفيس الأسس الفكرية لمفهوم التحوّل المجتمعي القائم على المبادرة الذاتية. يوضح أن التغيير الفعلي ينبع من بناء أشكال جديدة من التنظيم المحلي، تجمع بين الوعي والمسؤولية والممارسة اليومية، لتؤكد أن السياسة تبدأ عندما يدرك الأفراد والجماعات دورهم كشركاء في صياغة المستقبل.
في القسم الأول «الاستراتيجيات التقليدية للتغيير الاجتماعي ليست كافية»، يناقش ديفيس في الفصل الأول «الدولة لن تصلح مشاكلنا» حدود البيروقراطية التي حوّلت السياسة إلى إدارة مصالح ضيقة، بينما يستعرض في الفصل الثاني «ما الذي تستطيع الاحتجاجات فعله، وما الذي تعجز عنه» أمثلة عالمية توضّح أن التظاهر وحده لا يصنع تغييراً ما لم يُرفق ببناء بدائل عملية لإدارة الموارد واتخاذ القرار. هذا القسم يرسم إطاراً نقدياً يهيئ القارئ للتفكير في أنماط جديدة من العمل الجماعي المستدام.
يأتي القسم الثاني بعنوان «بناء حوكمة مسؤولة بدلاً من المطالبة بها»، وهو جوهر الكتاب، حيث يبيّن ديفيس كيف تحوّلت بعض حركات الاحتلال السلمي إلى نماذج واقعية للحكم الذاتي. ففي فصل «من الاحتلال إلى استبدال الدولة» يتتبع مسار التحوّل من الاعتراض إلى البناء، بينما يقــدّم في «استبدال الدولة اللامتناهية بحوكمة علائقية» تصوراً يقوم على شبكات من الثقة والعلاقات المتبادلة. وفي الفصل الخامس «هل إعادة تفعيل الحوكمة العلائقية مشروع للجميع؟» يدرس إمكانات توسيع هذه التجارب لتشمل مجتمعات متنوعة. أما القسم الثالث «إعادة التجربة إلى مجتمعاتنا» فيقدّم خطوات عملية لتطبيق الفكرة من خلال مبادئ «الاتصال، والمطالبة، والخلق»، وينتهي بفصل ختامي بعنوان «استبدال الدولة معاً» يؤكد أن مستقبل الحكم العادل يبدأ من التعاون الجماعي الذي يجعل من المجتمع ذاته نموذجاً مصغّراً للدولة المبنية على الثقة والعدالة والمشاركة.
تتبلور من خلال فصول الكتاب رؤية متكاملة تجعل القارئ يقتنع بأن التغيير الحقيقي يصنعه الناس حين يتحركون لبناء نماذج جديدة للحياة السياسية. فالتجارب التي يعرضها ديفيس تفتح آفاقاً لفهم مستقبلٍ تُدار فيه المجتمعات بروح المساواة والاحترام والارتباط بالأرض.














0 تعليق