منذ إعلان قيامها عام 1923، شكّلت الجمهورية التركية تجربة سياسية فريدة في الشرق الأوسط، جمعت بين مشروع التحديث والطموح القومي، وسعت إلى بناء دولة حديثة تستند إلى مؤسسات مركزية ورؤية إصلاحية امتدت جذورها إلى أواخر العهد العثماني. خلال مئة عام، شهدت تركيا تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة، وتبدّلت موازين القوى بين المركز والهوامش، ما جعلها ساحة تتقاطع فيها الأسئلة حول الهوية والدين واللغة والمواطنة والموقع الجغرافي بين الشرق والغرب.
يقدّم كتاب «الجمهورية التركية وقضاياها العالقة: مئة عام وما بعدها»، بتحرير الباحثتين بينار دنش وأولغا سلين هونلِر، قراءة نقدية شاملة للتجربة التركية في أبعادها التاريخية والسياسية والاجتماعية والفكرية. يجمع الكتاب بين تخصصات متعددة، فيتتبّع المسارات التي شكّلت الجمهورية من الداخل، ويحلّل القضايا التي ما زالت تؤثر في حاضرها وتوجّه مستقبلها.
توضح المؤلفتان أنّ فكرة هذا الكتاب وُلدت في يونيو/حزيران 2023 مع اقتراب الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية، وسط أجواء احتفالية رسميــة عمّتها رمزيــة الدولة الحديثة. غير أنّ كثيراً من «قضايـــا التأسيس» التي رافقت نشوء الجمهورية بقيت من دون معالجة جادة، وتراجعت إلى خلفية المشهد العام. من هنا، انطلق المشـــروع ليعيـــد طرح الأسئلة الكبرى التي غابت عن النقاش العام، ويسائـــل تاريــخ الجمهوريــــة وواقعها الراهن في ضوء التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي أعادت تشكيل تركيا المعاصرة.
يبدأ الكتاب بدراسة علاقة الدولة بالتاريخ، مبيّناً كيف أسهمت السرديات الرسمية في صياغة الذاكرة الوطنية، ومسلّطاً الضوء على فصول حساســة مثل الإبادة الأرمنية وأحداث ديرسم، وما خلّفته من أثر عميق في الوعـــي الجمعـــــي. كما يتناول فصولاً تبحث في التفاوتات الاجتماعية والثقافية التي نشأت عن أنماط التحديث، ويتطرّق إلى الزينوفوبيا والتحيّزات ضد الجماعات غير التركية بوصفها ظواهر بنيوية ارتبطت بمفهوم الهوية القومية.
وتستكشف الفصول اللاحقة التحولات الفكرية في مقاربات النسوية وقضايا الجندر، ودور الحركات النسائية في إعادة تعريف الأخلاق العامة والحرية الجسدية. كما يناقش الكتاب أشكال المقاومة الكويرية التي تسعى إلى توسيع المجال المدني وإعادة صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمــــع. ويقــــدّم أيضاً دراسات حول الحركــــات البيئيـــة وحــــق المدينــــــة، مبرزاً الترابــــط بين العمــــــران والسياســـــة والذاكــــرة المكانيـــة، وتأثير التنمية السريعة على العدالة البيئية والمجال العام.
يتميّز الكتاب بلغته العلمية الدقيقة ورصانتـــه المنهجيــة، ويقدّم صورة مركّبة للمجتمع التركي في لحظة مفصلية من تاريخه، حيث تتقاطع مسارات الماضي مع رهانات الحاضر.
يسعى العمل إلى إثراء النقاش حول مفهوم الدولة الحديثة في تركيا، ويعرض تحليلاً متعمقاً للعوامل البنيوية التي رافقت تأسيس الجمهورية، مثل ضعف المؤسسات الديمقراطية وتآكل سيادة القانون والانتهاكات المتكررة للدستور، بوصفها محددات أساسية لمسار تركيا خلال القرن المقبل.
وتؤكد المؤلفتان أنّ هدف هذا الكتاب هو استكشاف الإمكانات والحدود التي واجهتها الجمهورية عبر قرن من الزمن، وتحليل الإشكالات التي رافقت مسيرتها من الحقبة الكمالية إلى عهد أردوغان، مع استشراف مستقبلها من منظور مدني ديمقراطي يقوم على السلام والتنمية والعدالة الاجتماعية.
الجمهورية التركية وقضاياها العالقة.. 100 عام وما بعدها
الجمهورية التركية وقضاياها العالقة.. 100 عام وما بعدها














0 تعليق